Cherreads

Chapter 39 - الوعد

(تكملة الأحداث السابقة...)

في مركز القرية، كانت الحياة تنبض بكل دفء وسط البرد القارس.

العجوز، بثوبه الصوفي الثقيل، كان يكدّ في إزالة الثلوج من الممرات، وفي الجانب الآخر، تعالت ضحكات الأطفال وهم يتقاذفون كرات الثلج، يصنعون تماثيل مضحكة، وأحياناً وحوشاً ثلجية ذات أنوف جزرة وعيون من الحجارة.

كانت القرية، رغم بساطتها، تعيش لحظة سحرية لا تشبه شيئاً سوى حلم دافئ وسط العاصفة.

(نفس العجوز الذي قابله إيثان)

وسط كل هذا سُمع صوت مألوف ينادي العجوز: "أجهزت ما طلبته منك؟"

التفت العجوز باستغراب ناحية من ناداه، ليجد نيكولاس واقفاً وراءه مرتدياً ملابس شتوية من الرأس إلى أسفل القدمين، واضعاً يديه في جيوبه، بينما ينظر إلى عيني العجوز بنظرات من الحزم والجدية.

اتكأ العجوز على مجرفته بهدوء، ثم أخذ نفساً عميقاً قبل أن ينظر نحو نيكولاس وفي عينيه نوع من الخوف والقلق عليه قائلاً: "أما زلت متأكداً من قرارك هذا يا بني؟"

رد عليه نيكولاس والحزم يملأ صوته: "لقد أخبرتك سابقاً يا أيها العجوز عن أسبابي لفعل ما أريد فعله، لذلك من فضلك قلل الكلام وأعطني ما طلبته منك"

أخذ العجوز تنهيدة خفيفة في حين ظهرت على وجهه ملامح الاستسلام والقليل من الحزن، ليذهب بعدها نحو كومة الثلج التي كان يجمع فيها الثلوج.

ليقوم بعدها بإدخال يده داخلها مخرجاً حقيبة بحجم متوسط، ثم تقدم نحو نيكولاس، وتوقف على بعد خطوة واحدة منه.

مدّ الحقيبة بصمت، لكن قبل أن تفلت من يده، قال بصوت منخفض وبنبرة أشبه بالتشجيع: "كنت لأحاول أن أوقفك، وأحاول إقناعك بالتوقف عن هذا التصرف الطائش، لكن قضيتك مختلفة... فقط اذهب لا تجعلهم ينتظرون أكثر من ذلك"

التقط نيكولاس الحقيبة دون تردد، ولفها حول كتفه، قبل أن يكتفي بهز رأسه احتراماً للعجوز... ثم استدار مغادراً، وخطواته تُحدث صريراً على الثلج تحت وطأة القرار الذي اتخذه.

مرت الدقائق والساعات ببطء، وحل الليل على القرية، ليخلد الجميع إلى النوم.

ما عدا مجموعة صغيرة مكونة من 5 أشخاص مستيقظين أمام البوابة المحطمة بعدما تم توكيلهم لحراستها هذه الليلة إلى أن يتم إصلاحها.

كان جيسي يقص إحدى القصص لإيثان، في حين كانت جيني جالسة لوحدها ناظرة نحو القمر بصمت، ومن جهة أخرى كان جوزيف يلعب لعبة طاولة مع لوك والتوتر محتدم بينهما، كل هذا وهم يحاوطون موقداً مشتعلاً لكي يبقوا دافئين.

رفع جيسي يده فجأة مشيراً بعينين متحمستين: "وهكذا نجح الفارس بإنقاذ المملكة من الدمار..."

ليهدأ بعدها قليلاً وفي وجهه ملامح الاسترخاء: "أأعجبتك القصة؟"

رد عليه إيثان وعيناه مشتعلتان من الحماسة والتشويق مشيراً بالموافقة.

في الجهة الأخرى، ضغط لوك على قطعة اللعب بقوة، ثم حرّكها نحو الأمام قائلاً بنبرة تحدٍ: "كش ملك."

رفع جوزيف حاجبيه وضحك ضحكة قصيرة خالية من الهمّ، ثم قال: "هكذا بسهولة؟ من الواضح أنك غششت بشيء ما."

جيني رغم ضحكاتهم، بقيت ساكنة كتمثال، تحدّق بالقمر كعادتها، بينما شعرها يتطاير قليلاً مع الرياح.

نهض جيسي من مكانه بعدما بدأ بالشعور بالعطش باحثاً عن الماء في أي مكان بالجوار، لكنه لم يجده رغم محاولاته، ليقول بعدها بصوت مرتفع: "جوزيف! أين وضعت وعاء الماء؟"

رد عليه جوزيف بسرعة وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة منذ سنوات وفي وجهه ابتسامة خبيثة: "إنه في مؤخرتك ههههههههههههه"

ليبدأ بعدها بالضحك بشكل هستيري، في الوقت الذي شعر فيه جيسي بالانزعاج لكنه حاول كبحه بينما يقول: "أتكلم معك بجدية، أين؟"

هدأ جوزيف قليلاً من الضحك ورد عليه بابتسامة ساخرة: "ههههه، آسف لكنني نسيت إحضار واحد معنا"

تنهد جيسي باستياء ثم استدار ناحية القرية قائلاً: "سأذهب لأُحضره إذاً"، ليبدأ بعدها بالمشي ناحية كوخه إلى أن اختفى من أنظار الجميع.

أكمل الجميع ما كانوا يفعلونه بعد رحيله.

بقي إيثان جالساً في مكانه بهدوء شارد الذهن، يفكر بالقصة التي حكاها له جيسي ويعيد تذكر أحداثها.

مرّت بضع دقائق بهدوء ثقيل، ولم يعد جيسي بعد، لكن لم ينتبه أحد للأمر في البداية مسترخين من الموقد الذي لا يزال يبعث دفأه المتقطع في هذه الأجواء الباردة.

نظر لوك ناحية إيثان ثم من بعدها ناحية جوزيف ثم قال بنبرة هادئة ممزوجة بنوع من القلق: "لقد تأخر العم، ألا تظنون ذلك؟"

رد عليه جوزيف بعدم مبالاة: "لا تقلق ربما واجه بعض المشاكل الخفيفة"

رد عليه لوك بينما يحرك الحصان بالشطرنج: "لكن ماذا لو كانت مشاكل كبيرة؟"

ليرد عليه الآخر بنبرة متكاسلة بينما يحرك الملك: "إن كنت قلقاً عليه فلتذهب إليه، لم يمنعك أحد"

رد عليه لوك ببرود بينما يحرك الجندي: "حسناً"

لينهض بعدها ويبدأ بالمشي متتبعاً آثار أقدام جيسي.

صرخ عليه جوزيف بعصبية: "هيييي أيها الأحمق، اذهب عندما تنتهي وليس الآن"

لكن لوك تجاهله واستمر بالمشي.

صفع جوزيف وجهه باستياء وانزعاج، ليقوم بعدها بالالتفاف نحو النيران محاولاً تمضية الوقت إلى حين رجوعه.

نظر إلى إيثان لبضعة ثوانٍ، ثم إلى جيني ليجدهما كلاهما شارد الذهن.

عدل جلسته بهدوء، ثم في حركة خاطفة عندما تأكد أن لا أحد ينظر إليه قام بتغيير مواقع قطع الشطرنج لتكون في صالحه متجلية على وجهه ابتسامة خبيثة.

وفي تلك اللحظة، خرج نيكولاس من البوابات بهدوء، وصوت مشيه يكاد لا يُسمع على الثلج الأبيض، محملاً بحقيبة ظهر كبيرة ومن ورائها سلاح رشاش الواضح عليه أنه تم تصنيعه يدوياً.

استمر بالتقدم للأمام بهدوء نحو جوزيف الذي كان ينظر نحوه بمزيج من الاستغراب والتوتر: "آآآآآ نيكولاس؟؟؟ ما الأمر يا صاح؟"

وقف نيكولاس قريباً منه بهدوء وفي عينيه مزيج من العزيمة والجدية، ليقوم بعدها بفتح كتفه ورفع ذراعه ناحية جوزيف بهدوء بينما قال بنبرة جدية: "أعطني إياه".

رفع جوزيف حاجبه باستغراب ثم سأله: "أُعطيك ماذا؟ ولماذا؟"

رد عليه نيكولاس ونبرته بدأ يظهر عليها بعض العصبية: "الخريطة، وليس من شأنك ما سأفعل بها"

حدّق جوزيف فيه لثوانٍ، وكأنّه يحاول التأكد من أنه لا يمزح، ثم نهض ببطء من مكانه بينما يقول بلهجة ساخرة: "ما الذي تريد فعله بها مثلاً؟ الذهاب للقتال مع كاتوران ههههههه"

لم يضحك نيكولاس، لم يبتسم حتى. بقي واقفاً في مكانه كجدار، ينظر إلى جوزيف بنظرة جامدة.

قال بهدوء ممزوج بالعصبية: "أعطني الخريطة"

حك جوزيف رأسه والتوتر بدأ بالظهور على ملامحه ثم قال بنبرة مازحة ممزوجة بالقلق: "حتى لو قلنا أنني أعطيتها لك، فكيف ستستطيع فهمها أساساً؟ فأنت لا تعرف مبدأها أو طريقة فهمها"

وضع نيكولاس يده على ذقنه بينما بدأ بالتفكير وكأنه استوعب الأمر فقط لتوه ليقول بعدها: "إذاً ستأتي معي"

رد عليه جوزيف بسرعة: "مهلاً، ماذا؟"

ليقوم بعدها نيكولاس بسحبه بالقوة من ذراعه، والبدء بالمشي مبتعداً عن القرية.

حاول جوزيف التملص من قبضته وهو يقول بانزعاج: "انتظر، اتركني، إلى أين تأخذني أيها الأحمق؟"

لكن نيكولاس اكتفى بالرد بصوت مملوء بالحقد والكراهية: "أمسك حقيبتك اللعينة ووجهنا نحو مكان الكاتوران"

لتهيمن بعدها ملامح الصدمة والرعب على وجه جوزيف، بلع ريقه ببطء ثم قال بنبرة مترددة: "مهلاً، مهلاً، مهلاً، أتنوي الذهاب إلى الكاتوران حقاً؟!! أجُن جنونك أم ماذا؟؟"

ليبدأ بعدها بمحاولة فك قبضته بقوة أكبر وأكبر وملامح الرعب والارتعاب ظاهرة على وجهه.

ليقوم نيكولاس بلحظة غضب بتوجيه لكمة عنيفة لجوزيف جعلته ينحني من شدة الألم، ممسكاً ببطنه قبل أن يبدأ بالتقيؤ بغزارة.

مما أثار قلق جيني وإيثان اللذين ذهبا بسرعة لمحاولة معرفة ما يحصل بينهما.

لكن نيكولاس لم يهتم لأيٍ منهم وقال بنبرة غاضبة: "أمسك الخريطة وقدنا إلى الكاتوران"

رفع جوزيف نظره إليه ببطء، وجهه مشوه بالألم والخوف، ثم بصوت خافت ومهتز تمتم: "أنت مجنون يا صاح... أنت تمشي إلى موتك بقدميك وتريد سحبي إلى هلاكي"

توجه إيثان بسرعة ناحية جوزيف محاولاً الاطمئنان عليه، ليغير نظراته نحو نيكولاس واختلطت البراءة في وجهه بارتباك مفاجئ وصدمة واضحة.

في حين صرخت جيني على نيكولاس بارتباك: "ما الذي تفعله؟! أجننت أم ماذا؟"

لكن نيكولاس اكتفى بسحب جوزيف معه في طريقه غير مبالٍ للاثنين، بينما حاول إيثان سحبه هو الآخر بالاتجاه المعاكس، لكنه كان يُسحب معه فقط دون نفع يُذكر.

وسط كل هذا كانت جيني مجمدة في مكانها من التوتر والخوف عاجزة عن اتخاذ القرار.

قلبها ينبض بسرعة، صراع مرير يعتمل في صدرها بين الركض خلفهم أو العودة للقرية وطلب المساعدة.

وفي لحظة تشتت بعدما لاحظت ابتعادهم عن مرأى عينيها، بدأت بالركض خلفهم، آملة أن تجد طريقة لإيقاف كل هذا الجنون.

... وصلت إليهم بصعوبة، ومدّت يدها المرتجفة لتقبض على كتف نيكولاس، بينما تتنفس بصعوبة بسبب البرد والتعب قائلة بنبرة يملؤها الرجاء والتوسل: "نيكولاس أرجوك توقف عما تفعله ودعنا نعد إلى القرية"

لم يلتفت إليها أو ينظر إليها حتى، اكتفى بالقول بهدوء: "إن أردت العودة فعودي، كل ما أحتاجه هو جوزيف حالياً، أما أنتم فليس لكم دخل بما أفعله"

تجمدت جيني في مكانها، ورمقت جوزيف بنظرة سريعة، وجهه شاحب، لتجده يمشي مترنحاً وكأنه فقد القدرة على المشي طبيعياً.

شعرت بشيء يعتصر قلبها، تلك النظرة في عينيه... نظرة توسل وخوف، كأنه يصرخ في داخله متمنياً أن يقوم نيكولاس بتركه وشأنه.

ارتجف صوتها، وهي تتمتم دون أن تجرؤ حتى على لمس نيكولاس مجدداً: "لن أذهب لأي مكان إن لم تترك جوزيف، إنه ليس بأمان معك..."

نظر نيكولاس إليها بطرف عينيه لعدة ثوانٍ، ليقوم بعدها بإعادة النظر للأمام والتقدم بهدوء، في حين كان إيثان وجيني ينظران نحو بعضهما بنوع من القلق وعدم الارتياح، تابعان إياه على أمل أن يتوقف عما يفعله في نقطة ما.

بعد مرور عدة دقائق، عاد جيسي ولوك من داخل القرية، وجيسي يحمل وعاء المياه وهو يتكلم مخاطباً البقية: "آسف على تأخري، الثلج قد غير من ملامح المكان ومع الظلام قد نسيت مكان الكوخ، لهذا الأمر استغرق..."

ليلاحظ بعدها أن لا أحد في المكان، وجه نظراته بعدها للوك باستغراب سائلاً إياه: "أين ذهب البقية؟"

ليجده ينظر يميناً ويساراً باستغراب وعدم ارتياح، ثم قال وفي صوته قلق مكتوم: "لا أعرف... لقد كانوا هنا عندما كنت موجوداً"

حك جيسي رأسه في حيرة ناظراً إلى نيران المخيم: "كان يفترض أن ينتظرونا هنا... لا أظن أنه كان هناك سبب لذهابهم في هذا الجو"

تقدم لوك ناحية المكان الذي كان يجلس فيه، ليلاحظ أن لوح الشطرنج مبعثر بالأرض، وفي الوقت ذاته قال جيسي للوكاس: "أهذا... قيء؟"

ليغير لوكاس نظراته بسرعة ناحية جيسي وتعابير القلق وعدم الارتياح تسيطر على وجهه بعد أن أدرك ما يحدث: "أوه تباً... لا بد أنهم تعرضوا لهجوم!!"

تسارعت أنفاس جيسي وهو يقول بقلق واضح: "إذاً يجب أن نجدهم بسرعة، لا بد أنهم لم يبتعدوا لهذا الحد"

هز لوك رأسه موافقاً، ليبدؤوا بعدها بالبحث في كل مكان عن أي أثر لهم.

حول أسوار القرية.

داخل القرية.

قريباً من مكان اختفائهم.

لكنهم لم يجدوا شيئاً يدلهم على مكانهم وكأن كل الأدلة تم محوها.

اتكأ لوك أمام النيران بتعب، والقلق ينهش قلبه ببطء قائلاً بحسرة: "آآآآآ تباً، لماذا لا يوجد شيء؟ من المفترض أن نستطيع رؤية المكان الذي ذهبو اليه عن طريق آثار أقدامهم على الثلج"

رد عليه جيسي بينما اتكأ هو الآخر بوجه متعب: "الثلج يتساقط بكثافة ورياح شبه شديدة، ذلك قد أزال آثار أقدامهم"

ليدوم الصمت بينهما لعدة دقائق، محاولين التفكير بأي شيء تحت وطأة الفزع والهم.

التفت لوك للوراء ناظراً إلى الثلوج الكثيفة التي تغطي المكان بترقب، منتظراً أن تكون هذه فقط مزحة من مزح جوزيف.

في الوقت الذي كان فيه جيسي غير قادر على الثبات من الضجر.

غارقاً في أفكاره الخاصة ناسياً برودة الأجواء من حوله واضعاً كفه على وجهه بانزعاج.

"أيها الفاشل... كل ما كان عليك فعله هو حمايته... فقط البقاء معه أو أخذه معك... لكن لا، تركته معهم وكأنهم سيحمونه ناسياً مسؤوليتك تجاهه... وصية بسيطة كان عليك اتباعها، لكنك لا تستطيع وكأنها شيء صعب..."

نزع كفه من على وجهه مظهراً ملامحه التي طغا عليها التعب والأسى، ليتمتم بعدها بصوت غير مسموع: "إيثان... فلتبق بخير... أرجوك" لينهض فجأة على قدميه، تحت أنظار لوك المستغرب منه.

بدأ بالخطو نحو القرية بخطى سريعة، ليتبعه لوك بعدها محاولاً مواكبته سائلاً إياه: "إلى أين أنت ذاهب؟"

رد عليه جيسي بصوت جدي: "سأطلب المساعدة من ميرا، لا بد أنها ستستطيع مساعدتنا"

رد عليه لوك وهو يرفع حاجبه في حيرة: "أتعرف أين كوخها أساساً؟"

رد عليه بنفس النبرة: "لا، لكنني سأعرف قريباً"

(يُكمل)

More Chapters